فصل: القصة الخامسة: قصة عيسى عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القصة الخامسة: قصة عيسى عليه السلام:

المذكورة في قوله تعالى: {وجعلنا} أي: بعظمتنا وقدرتنا {ا ابن مريم} نسبه إليها تحقيقًا لكونه لا أب له، وكونه بشرًا محمولًا في البطن مولودًا لا يصلح لرتبة الإلهية، وزاد في تحقيق ذلك بقوله: {وأمه} وقال تعالى: {آية} ولم يقل: آيتين؛ لأنّ الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل، ويحتمل أنّ الآية الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية لأنّ الله تعالى: جعل مريم آية لأنها حملته من غير ذكر، وقال الحسن: قد تكلمت في صغرها كما تكلم عيسى وهو قولها: {هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}، ولم تلتقم ثديًا قط.
تنبيه:
قال بعض المفسرين: ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكلمت به آية للقدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام، ومن ذكر بلا أنثى وهي حوّاء عليها السلام، ومن أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام، ومن الزوجين وهو بقية الناس {وآويناهما} أي: بعظمتنا {إلى ربوة} أي: مكان عالٍ من الأرض.
تنبيه:
قد اختلف في هذه الربوة، فقال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وكعب، قال كعب: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلًا، وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق، وقال أبو هريرة: هي الرملة، وقال السدي: هي أرض فلسطين، وقال ابن زيد: هي مصر، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء، والباقون بضم الراء {ذات قرار} أي: منبسطة مستوية واسعة يستقر عليها ساكنوها {ومعين} أي: ماء جار ظاهر تراه العيون.
تنبيه:
قد اختلف في زيادة ميم معين وأصالتها فوجه من جعلها مفعولًا أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلًا أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة قيل: سبب الإيواء أنها مرت بابنها إلى الربوة، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم وهاهنا آخر القصص. وقد اختلف في المخاطب بقوله تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} على وجوه؛ أحدها: أنه محمد صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة، ثانيها: أنه عيسى عليه السلام؛ لأنه روي أنّ عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، ثالثها: أنه كل رسول خوطب بذلك، ووصي به لأنه تعالى في الأزل متكلم آمرناه، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين بل الخطاب أزلًا على تقدير وجود المخاطبين، فقول البيضاوي: لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أنّ كلًا منهم خوطب به في زمانه، تبع فيه الكشاف، فإن المعتزلة أنكروا قدم الكلام فحملوا الآية على خلاف ظاهرها، وأنت خبير بأنّ عدم اشتراط ما ذكر إنما هو في التعلق المعنوي لا التنجيزي الذي الكلام فيه، فإنه مشروط فيه ذلك، وإنما خاطب جميع الرسل بذلك ليعتقد السامع أنّ أمرًا خوطب به جميع الرسل ووصوا به حقيق أنّ يؤخذ به ويعمل عليه، وهذا كما قال الرازي أقرب؛ لأنه روي «عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم، فرد صلى الله عليه وسلم إليها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي، ثم رده صلى الله عليه وسلم وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي، فأخذه ثم إنها جاءته فقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى الله عليه وسلم بذلك أمرت الرسل أنّ لا تأكل إلا طيبًا، ولا تعمل إلا صالحًا»، والمراد بالطيب الحلال، وقيل:طيبات الرزق الحلال الصافي القوام، فالحلال هو الذي لا يعصى الله تعالى فيه، والصافي هو الذي لا ينسى الله فيه، والقوام هو الذي يمسك النفس ويحفظ العقل، وقيل: المراد بالطيب المستلذ أي: ما تستلذه النفس من المأكل والمشرب والفواكه، ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون]. واعلم أنه سبحانه وتعالى كما قال للمرسلين: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} قال للمؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، ودل سبحانه وتعالى على أنّ الحلال عون على الطاعة بقوله تعالى: {واعملوا صالحًا} فرضًا ونفلًا سرًا وجهرًا غير خائفين من أحد غير الله تعالى، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله تعالى: {إني بما} أي: بكل شيء {تعملون عليم} أي: بالغ العلم فأجازيكم عليه، وقرأ: {وإن هذه} بكسر الهمزة الكوفيون على الاستئناف، والباقون بفتحها على تقدير واعلموا أنّ هذه أي: ملة الإسلام، وخفف النون ساكنة ابن عامر وشدّدها مفتوحة الباقون {أمتكم} أي: دينكم أيها المخاطبون أي: يجب أنّ تكونوا عليها حال كونها {أمة واحدة} لا شتات فيها أصلًا، فما دامت موحدة، فهي مرضية {وأنا ربكم} أي: المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي، فمن وحدني نجا، ومن أشرك معي غيري هلك {فاتقون} أي: فاحذرون.
{فتقطعوا} أي: الأمم وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم؛ لأنّ الآية التي قبلها قد صرحت بأنّ الأنبياء ومن نجا منهم أمة واحدة لا خلاف بينهما، فعلم قطعًا أنّ الضمير للأمم، ومن نشأ بعدهم ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحدًا أهم فقدم، وقوله: {أمرهم} أي: دينهم بعد أنّ كان مجتمعًا متصلًا {بينهم} وقوله تعالى: {زبرًا} حال من فاعل تقطعوا أي: أحزابًا متخالفين، فصاروا فرقًا كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الأديان المختلفة جمع زبور بمعنى الفرقة، وقيل: معنى زبرًا كتبًا أي: تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب {كل حزب} أي: فرقة من المتحزبين {بما لديهم} أي: عندهم من ضلال وهدى، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {فرحون} أي: مسرورون فضلًا عن أنهم راضون، وقوله تعالى: {فذرهم} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: اترك كفار مكة {في غمرتهم} أي: ضلالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها {حتى حين} أي: إلى أنّ يقتلوا أو يموتوا، سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره، ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أنّ حالهم في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد حالة رضا عنهم أنكر ذلك عليهم تنبيهًا لمن سبقت له السعادة، وكتبت له الحسنى وزيادة فقال تعالى: {أيحسبون} أي: لضعف عقولهم، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها {أنما نمدهم} أي: نعطيهم ونجعله مددًا لهم {به من مال} نيسره لهم {وبنين} نمتعهم بهم، ثم أخبر عن أنّ بقوله تعالى: {نسارع} أي: نعجل {لهم} أي: به {في الخيرات} لا نفعل ذلك {بل لا يشعرون} أنهم في غاية البعد عن الخيرات {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف]. وقال تعالى في موضع آخر: {فلا تعجبك أمولهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة]. وروي عن زيد بن ميسرة أنه قال: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أيفرح عبدي أنّ أبسط إليه الدنيا، وهو أبعد له مني، ويحزن أنّ أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني، وعن الحسن أنه لما أتي عمر رضي الله عنه بسواري كسرى فأخذهما ووضعهما في يد سراقة بن مالك فبلغا منكبيه، فقال عمر: اللهم إني قد علمت أنّ نبيك عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يصيب مالًا لينفقه في سبيلك، فزويت ذلك عنه، ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك اللهم لا يكون ذلك مكرًا منك، ثم تلا: {أيحسبون} الآية. ولما ذكر أهل الافتراق ذكر أهل الوفاق ووصفهم بأربع صفات.
الأولى: قوله تعالى: {إن الذين هم} أي: ببواطنهم {من خشية ربهم} أي: الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم {مشفقون} أي: دائمون على الحذر.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {والذين هم بآيات ربهم} أي: القرآن {يؤمنون} أي: يصدقون.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {والذين هم بربهم} أي: الذي لا محسن إليهم غيره {لا يشركون} أي: شيئًا من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في الإحسان إليهم أحد، ولما أثبت لهم الإيمان الخالص نفى عنهم العجب بقوله تعالى: {والذين يؤتون} أي: يعطون {ما آتوا} أي: ما أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة، وهذه الصفة الرابعة {وقلوبهم وجلة} أي: شديدة الخوف أنّ لا يقبل منهم ولا ينجيهم من عذاب الله، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {أنهم إلى ربهم} أي: الذي طال إحسانه إليهم {راجعون} بالبعث، فيجازيهم على النقير والقطمير، ويجزيهم بكل قليل وكثير، وهو الناقد البصير، ولا تنفع هناك الندامة، وليس هناك إلا الحكم العدل والحكم القاطع من جهة مالك الملك؛ قال الحسن البصري: المؤمن جمع إيمانًا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا، ثم أثبت لهم ما أفهم أنّ ضده لأضدادهم بقوله تعالى: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} أي: يبادرون إلى الأعمال الصالحة قبل الموت، ولما ذكر تعالى كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر أنه تعالى لا يكلف أحدًا فوق طاقته بقوله تعالى: {ولا نكلف نفسًا إلا وسعها} أي: طاقتها، فمن لم يستطع أن يصلي الفرض قائمًا فليصل قاعدًا، ومن لم يستطع أنّ يصلي قاعدًا فليصل مضطجعًا، ومن لم يستطع أنّ يصوم رمضان فليفطر؛ لأنّ مبنى المخلوق على العجز {ولدينا} أي: وعندنا {كتاب ينطق بالحق} بما عملته كل نفس، وهو اللوح المحفوظ تسطر فيه الأعمال، وقيل: كتب الحفظة ونظيره قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} [الجاثية]. وقوله تعالى: {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [الكهف]. فشبه تعالى الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرف بما فيه كما يعرف بنطق الناطق إذا كان محقًا فإن قيل: ما فائدة ذلك الكتاب مع أنّ الله تعالى يعلم ذلك إذ لا تخفى عليه خافية؟
أجيب: بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء، وقد يكون في ذلك حكمة لا يطلع عليها إلا هو تعالى: {وهم} أي: الخلق كلهم {لا يظلمون} أي: لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد في سيئاتهم، ثم ذكر حال الكفار فقال تعالى: {بل قلوبهم} أي: الكفرة من الخلق {في غمرة} أي: جهالة قد أغرقتها {من هذا} أي: القرآن أو الذي وصف به حال هؤلاء أو من كتاب الحفظة {ولهم أعمال من دون ذلك} المذكور للمؤمنين {هم} أي: الكفار {لها} أي: لتلك الأعمال الخبيثة {عاملون} أي: لابد أنّ يعملوها فيعذبون عليها لما سبق من الشقاوة.
{حتى إذا أخذنا مترفيهم} أي: رؤساءهم وأغنياءهم {بالعذاب} قال ابن عباس: هو السيف يوم بدر، وقيل: هو الجوع دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فابتلاهم الله تعالى بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والقذر والأولاد {إذا هم يجأرون} أي: يصيحون ويستغيثون ويجزعون، وأصل الجأر رفع الصوت بالتضرع؛ قاله البغوي، فكأنه قيل: فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم؟ فقيل: لا بل يقال لهم بلسان الحال أو المقال.
{لا تجأروا اليوم} فإن الجأر غير نافع لكم، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنكم منا لا تنصرون} أي: بوجه من الوجوه، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصرًا فلا فائدة لجأره إلا إظهار الجزع، ثم علل عدم نصره لهم بقوله تعالى: {قد كانت آياتي} أي: من القرآن {تتلى عليكم} أي: من أوليائي وهم الهداة النصحاء {فكنتم} كونًا هو كالجبلة {على أعقابكم} عند تلاوتها {تنكصون} أي: تعرضون مدبرين عن سماعها والعمل بها، والنكوص الرجوع القهقرى.
{مستكبرين} عن الإيمان، واختلف في عود الضمير في {به} فقال ابن عباس: بالبيت الحرام، وشهرة استكبارهم وافتخارهم أنهم قوّامه أغنت عن سبق ذكره، وذلك أنهم يقولون: نحن أهل حرم الله وجيران بيته، فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحدًا، فيأمنون فيه، وسائر الناس في الخوف، وقيل: بالقرآن، فلم يؤمنوا به، وقوله تعالى: {سامرًا} نصب على الحال أي: جماعة يتحدثون بالليل حول البيت، وقوله تعالى: {تهجرون} قرأه نافع بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش أي: تفحشون وتقولون الخنا ذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم، أي: تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان وعن القرآن وترفضونها وتسمون القرآن سحرًا وشعرًا، ثم إنه تعالى لما وصف حالهم ردَّ عليهم بأنّ بين أنّ إقدامهم على هذه الأمور لابد أنّ يكون لأحد أمور أربعة:
أحدها: أنّ لا يتأملوا في دليل نبوّته، وهو المراد من قوله تعالى: {أفلم يدّبروا القول} أي: القرآن الدال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأصل يدبروا يتدبروا أدغمت التاء في الدال.
ثانيها: أنّ يعتقدوا أنّ ما جاء به الرسول أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله تعالى: {أم جاءهم} في هذا القول {ما لم يأت آباءهم الأولين} الذين بعد إسماعيل وقبله.
ثالثها: أنّ لا يكونوا عالمين بأمانته وحسن حاله قبل ادعائه النبوّة، وهو المراد من قوله تعالى: {أم لم يعرفوا رسولهم} أي: الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، وهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وما جاءهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه إذا تحققت الحقائق نقيصة يذكرونها ولا وصمة يستحلونها كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صلى الله عليه وسلم وقد اتفقت كلمتهم بتسميته الأمين {فهم} أي: فتسبب عن جهلهم به أنهم {له} أي: نفسه أو القول الذي أتى به {منكرون} فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبغباوتهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل، ثم كذبوه.